ذروة النضج فى بناء المشهد الشعرى فى «مذبحة القلعة» و«حرب الباسوس»

أحمد عبد المعطى حجازى
أحمد عبد المعطى حجازى

أدى كل ذلك إلى ظهور تغيرات جذرية فى النظر إلى الشعر وفى إبداعات الشعراء أنفسهم، ومن ذلك ما طرأ على الشعر الغنائى من الاتكاء والاستفادة من إمكانيات الشعر التمثيلى فى تقديم قضايا الإنسان الاجتماعية والسياسية مما يعد ثورة فى جماليات بناء القصيدة الغنائية لدى كثير من رواد الشعر الحر الحديث مثل نازك ملائكة وبدر شاكر السياب ومحمد الفيتورى وصلاح عبد الصبور ومنهم أمل دنقل وحجازى الذين اعتمدوا فى بناء قصائدهم على تقديم المشاهد الدرامية المتضمنة لبعض العناصر المؤسِّسة فى تشكيل الصورة لونا وحسا وبصرا وحركة وذلك بتصميم بناءات تعتمد على التناصات المشهدية مع الحوادث المعاصرة أو الوقائع التراثية والأسطورية والدينية المقدسة، وإعادة إنتاجها فى مواجهة الواقع نقدا وفضحا وتبشيرا وطموحا إلى التغيير.

وفى هذا المشهد التجديدي، ظهر أحمد عبد المعطى حجازى وأمل دنقل يستنهضان الإنسان ويحرضانه على استعادة مواريث الكرامة والحرية والقيم الإنسانية النبيلة.

اقرأ أيضاً| اليوم غلق باب الاشتراك فى معرض القاهرة للكتاب

وذلك من خلال قصائد سيطرت عليها الدراما المشهدية بتقنياتها المستمدَّة من القَصِّ والمسرح، فنراهما فى بواكيرهما الأولى خلال قصيدتيهما «الطريق إلى السيدة» و«طفلتها» يذهبان بعيدا فى استلهام روح القَصِّ والحوار.

فى تفاصيل المنجز الإبداعى لدنقل وحجازي، فقد كانا على شفا اقتراف عبقرى أوشكا على إنجازه وهو المسرح الشعري، وذلك حدَثٌ لو تمَّ لَسارَ الشعر العربى بأكمله فى أفق جديد وطريق غير مسبوقة، فقد وصلت براعتهما فى تشييد المشهد الشعرى حدا فارقا وذروة فى غاية النضج وخصوصا فى «مذبحة القلعة» لحجازى و(أقوال جديدة عن حرب البسوس) لدنقل، ففيهما بناء درامى أوشك على الاكتمال، فهناك الحدث المؤامرة الذى يأخذ فى التصاعد، وهناك صراع بين الخير والشر، بين الفساد والإصلاح، بين القوة والضعف، بين البراءة والمؤامرة، فصراع الأضداد ناشبٌ فى العملين، وهناك الشخوص والحوار (أمين بك، المنادي، بعض المماليك، بسطاء الناس فى الحوارى المجاورة للقلعة) وهناك بعض تفاصيل المكان والزمان فى قصيدة حجازى عن مذبحة القلعة، و عند دنقل هناك جليلة بنت مرة وزرقاء اليمامة وكليب ونساء القبيلة ورجالها والزير سالم فى (أقوال جديدة عن حرب البسوس) كما تضمنت بعض ملامح المكان والزمان.

و «مذبحة القلعة» لحجازى هى من أنضج الأعمال الدرامية المشهدية؛ لكنها لم تبلغ حدّ المسرحية الكاملة، فليس فيها صراع تفصيلى وشخوص كثيرة واضحة الملامح على المستويين المادى النفسى؛ فعلى سبيل المثال، لم يهتم حجازى بالمماليك كثيرا كشخصيات مفردة متفردة، كما لم يهتم بتفاصيل الصراع الدرامى «الحبكة»، ورغم ذلك كانت هذه القصيدة أكثر المحاولاتِ اكتمالا فى البناء المشهدى.

أخذ الشاعر فى هذه القصيدة حدثا تاريخيا وعالجه معالجة شعرية فيها مشاهد متتابعة، يذكر الشاعر فيها التفاصيل المختلفة التاريخية بطريقة سردية بعيدة عن الإنشاء والغنائية. فلذا فهى أكثر التجارب المشهدية اكتمالا.

وقصيدة «أقوال جديدة عن حرب البسوس» لأمل دنقل و«مذبحة القلعة» كلاهما ذات مرجعات تاريخية؛ الهدف من الأولى إثارة الحماسة لمقاتلة الإسرائيليين ورفض السلام. والهدف من الأخرى هو رفض موقف الوالى الجديد محمد على من قتل المماليك الذين دافعوا عن الوطن وحاربوا الفرنسيين.

ففى قصيدة «مذبحة القلعة» يجهّز الحاكم (محمد على الذى تولَّى حُكم مصر بعد الحملة الفرنسية) مؤامرةً للتخلص من زعماء المناطق فى مصر حتى ينفرد بالسلطة والقرار، فيستدرجهم إلى مقرِّ الحُكم فى قلعة صلاح الدين بزعم الاحتفال بتوديع الجيش الذاهب إلى الحجاز فى جزيرة العرب لقتال القبائل التى استقلت بالحكم على الخلافة العثمانية.

يقول حجازى واصفا أجواء المذبحة وإعداد المؤامرة:

الدجى يحضن أسوار المدينة

وسحابات رزينة

خرقتْها مئذنة..

ورياح واهنة

ورذاذ، وبقايا من شتاء

… … …

ثم رنَّتْ فى فراغ البرج صيحة

ثم دار البابُ فى صوتٍ شديد

بابُ قلعة

فيه آثارٌ وماءٌ وصدأ

واختفى الفارسُ فى أنحائها

صاعدا يحمل «للباشا» النبأ

«المماليك جميعا فى المدينة»

ثم يستمر التصاعد الدرامى وإعلام الناس بالشوارع عن توجه الأمير طوسون ابن محمد على إلى الحجاز لقتال المتمردين فيقول:

حيث ما زال المنادى يتلوَّى فى الحواري،

راجفا فى الصمت:

يا أهل المدينة

فى البكورْ

سوف يمضى جيشُ «طُوسُن»

ابنِ ولينا الكبير للحجاز

لقتال الكافرين الخارجين

عن موالاة أمير المؤمنين

ساكنَ البِسْفُورِ، حَاميِ الآستانة

نضَّر الله زمانَه!

ولا ينسى الشاعر التفاصيل الدقيقة فى هذه المشهدية التى قاربت على الاكتمال الدرامى فيذكر تلقى الناس البسطاء لهذا الخبر، يقول:

ويمد العينَ شيخٌ خارجٌ باب الدار

يَتوارَى ويُتمتِم:

-فى جهنمْ

ما لنا نحن وطوسون يا حماره؟!

ويرد البابَ فى حقدٍ وراءه

وفى هذا المشهد (القصيدة) اكتملت كل العناصر والمرجعيات، فلدينا واقعة تاريخية ثابتة فى مطلع القرن التاسع عشر، ولدينا مكان هو القلعة (مقر الحكم) وما حولها من أحياء مصر القديمة، ولدينا شخصيات أبرزهم أمين بك الذى أحس الخيانة والمؤامرة فهرب فى اللحظة الأخيرة، ومن خلال هذا البطل الذى يجسد الخير والإصلاح تكمن رؤية الشاعر الذى يرفض ويستنكر مؤامرة محمد على فى التخلص من المماليك الذى يراهم الشاعر فى موطن لاحق من القصيدة أنهم أبطال قاوموا الحملة الفرنسية على مصر، يقول حجازي:

……

ورياح واهنة

تتلوَّى فى الحوارى الحجرية

ثم تمضى فى دروب الأزبَكِيَّة

فى مياه البِركة الخضراء تهوي

حيث يبدو قصرُ مملوك جميلْ

روَّع الإفرِنجَ فى يوم طويلْ

عندما شدُّوا الخيول

لِتَبولْ

فوق صَحن الأزهر المعمور! لا كانت تعود

عندما شدُّوا الخيول

وأمين بك

آهٍ هذا الفارس الشهْمُ النبيلْ

قال: «هيا يا جنود الله يا أهل المدينة»

أنا منكم ودمى من قمحِكم،

وجراحى قطرةٌ من جرحكم،

وقُراكم موطني. إنى غريبْ

قد رعانى ذلك الوادى الخصيبْ

وتمضى القصيدة المشهد فى تصاعدها مرورا بأحزان البسطاء من الشعب المصرى وانصرافهم عن هذا الصراع بين الوالى الجديد (محمد علي) والولاة السابقين (المماليك) واصف عسكر محمد علي.

- عسكر الباشا! وينسد الطريق

بخليط

من بلاد الأرناؤوط

وبلاد الصرب، والأتراك.. من كل البلاد

وسَّعوا يا ناس للركب! وينسدُّ الطريق

ويَثيرون الغبار

عالم يركب بغلة

تتهادى فى وقار

نقلةً إثر نقلة

تقصد القلعة للمحتفلين

… …

وهذه اللمحة الأخيرة من المشهد السابق تحمل قدرا من السخرية الكوميديا التى يظهر فيها موقف علماء الدين فى تأييد الحاكم المتآمر على المماليك فى لقطة كاريكاتيرية، ثم يمضى فى التفاصيل الدرامية التى تبدى تعاطفه وأسفه على مصير المماليك المنتظر مازجا بينه وبين حال العامة من شعب مصر، يقول:

وجموعُ الناس تَرْنُو وتُشير

 آه يا عيني.. لقد أضحوا يتامَى مثلَنا!

 ما لَهُمْ فى الأمر شىء مثلَنا!

وأشار الناس فى وجه أمين بك ثم قالوا:

ذلك الوجه القمر

ذلك الشهم النبيل

روَّج الإِفرنجَ فى يوم طويل!

وتستمر اللقطات المكوِّنة للمشهد فى التتابع حتى لحظة الذروة، لحظة تنفيذ المؤامرة.

بين أسوار أبراج رهيبة

فإذا بالباب يَرْتَدُّ هناك!

وإذا صوت الجموع

صادرٌ من خلف باب.. من هناك

- أَطْلِقُوا!

قالَها قائدُ الجند الأرناؤوط

-أَطْلِقُوا!

ورغم كل هذا الصراع العنيف بين المماليك الذين تم اقتيادهم للموت غدرا وبين إرادة الحاكم المستبد الراغب فى التخلص من كل قادة الأقاليم حتى ينفرد بالحكم، فى ذروة هذا الصراع يَحضر الشاعر أمين بك فى لَقطة ثالثة يفرُّ فيها من حلقة موت المحكمة:

 وأمين بك جانبَ السور وفى يمناه سيفه

هل يُفيد السيفُ؟ آه لن يفيد

- يا مماليكُ أيا أُبَّهةَ العصر المجيد

قد مضَيْتُمْ!

قالها واغْرَوْرَقَتْ عيناه بالدمع الوَئيدْ

واِلْتَقَتْ عيناه فى عينَيْ شهيدْ

ثم يَعدُو بحُصانِه

… … …

-قد نجا منهم أمين بك يا رجالْ!

قالها الناس على ظهر التلالْ

  … … …

ثم يمتدُّ السكونْ

وحصانٌ يهبِط القلعةَ وحدَه

مُطْرَقًا يَمْضُغُ فى صمتٍ حزينْ.

وتأتى الذروة الأخرى لاكتمال المشهد فى قصيدة «أقوال جديدة عن حرب البسوس» لأمل دنقل؛ إلا أنها تتميز بخروج المشهد عن سياقه وضوابطه وتفاصيله التاريخية ويتم توظيفه وإسقاطه على الواقع فى بعده السياسى الوطنى (النزاع العربى الإسرائيلي) فى الوقت الذى التزمت فيه قصيدة «مذبحة القلعة» لحجازى بالضوابط والتفاصيل التاريخية لتلك الواقعة.

والبسوس وحربها التى نَشَبَتْ فى جاهلية العرب قبل الإسلام بقرنين تقريبا؛ اتَّكأ عليها أمل دنقل وعلى كل ما ثار حولها من تهويلات وخرافات كمَدخل لتناول الواقع العربى الآن وما لحق به من خسائرَ واحتلال وتشريد على يد الإسرائيليين وحلفائهم فى الغرب، فحرب البسوس وفقَ ملامحها التراثية نشبتْ بين فرعين من قبيلة قيس هما بنو بكر وبنو تَغلِب بسبب ناقة البسوس تلك المرأة التى كانت فى ضيافة جساس بن مُرَّة، بسبب هذه الناقة الجرباء التى انطلقت فى مراعى كليب فقام بعقرها مما أدى إلى نشوب الحرب مدة طويلة قاربت أربعين سنة، وفيها قتل جساسٌ كليبا، واستمرت الحرب ما بين دعوات للثأر ومطالبات للصلح والسلام، هذه الواقعة اعتمد عليها الشاعر كأرضية لتناول الحروب والنزاعات ومبادرات الصلح والسلام بين العرب والإسرائيل. واستهلَّ الشاعر قصيدته بتناص لغوى شهير مع ما ورد فى العهد القديم بسفر الخروج تحت عنوان الوصايا العشر التى أنزلها لله على رسول موسى فى الألواح خلال خروجهم من مصر صَوْبَ فلسطين، وجاء التناص كآلية مشهدية خلال عشر زوايا لالتقاط الرؤية الجديدة التى يسعى الشاعر لإقامتها، يقول دنقل:

لا تصالح!

.. ولو مَنَحُوك الذهبْ

أتُرى حين أفقأ عينيك

ثم أثبت جوهرتين مكانهما

هل ترى؟

هى أشياء لا تُشترى

… … …

وتتصاعد وتيرة الرفض وإيقاع الاحتجاج على مساعى الصلح فى شكل دفقات تتصدّرها جملة مركزية تتكرر فى افتتاح كل مقطع وفى أثنائه (لا تصالح)، وفى كل مرة يقدم مبررات إنسانية وذاتية لرفض الصلح والسلام حتى نصل إلى المقطع السادس بداية إسقاط التراث على الواقع ويدرك القارئ بعد كل هذا الحشد الشعورى والنفسى أنه قد تورّط فى متابعة قصة واقعية أليمة تمس صميم حياته وليست مجرد قصة يحاول الشاعر فيها إعادة إنتاج تراثه مرة أخرى، فالعدو ليس جساسا والضحية ليست كليبا وبنته اليمامة وأخته جليلة، ودعاة الصلح والسلام ليسوا بقية قبيلة قيس، يقول دنقل:

سيقولون:

ها أنت تطلب ثأرا يطول

فخذ -الآن- ما تستطيع:

قليلا من الحق..

فى هذه السنوات القليلة

إنه ليس ثأرك وحدك

لكنه ثأر جيل فجيل

… … …

اتَّضح الآن هدف الشاعر ورؤيته، فقضية فلسطين المحتلة ليست ثأرا شخصيا إنما قضية تَحملِها أجيال متلاحقة، هنا وعند هذا الحد من النص قد خرجنا تماما من ثياب القصة التراثية وارتدينا ثوب الواقع وذلك تحت وقع إشارات ووخزات قوية عميقة وسريعة مشحونةً بالرفض المطلق لكل مساعى الصلح التى تتجاوز حق الدماء وحقّ الأرواح المشرَّدة والأرض السليبة المدنَّسة بالاحتلال، يقول:

لا تصالح..

إلى أن يعود الوجوه لدوراته الدائرة:

النجوم.. لميقاتها

والطيور.. لأصواتها

والرمال.. لذرّاتها

والقتيل لطفلته الناظرة

… … …

وكل ذلك المضمون المعرفى المُحْتشِد بالرفض والإباء يأتى فى مشاهد متتالية تتشكل من لقطات تمُور بالحركة والاضطراب، تأخذ ذروات متعاقبة خلال القصيدة كلها.

 لم يصح قاتل بي: انتبه!

كان يمشى معي..

ثم صافحني..

ثم سار قليلا

ولكنه فى الغصون اختبأ!

فجأة:

ثَقَبَتْنِى قُشَعْرِيرةٌ بين ضِلعين..

واهتزَّ قلبى كفقاعة وانفثأ

… … …

هذا الاضطراب والغَلَيَان يتجسّد ببراعة فى كل جماليات الأداء البلاغى لغة وتصويرا؛ فالبناء الصوتى للغة مشحون بحروف القلقلة والتذبذُب على مستوى البنية الداخلية، كما أنه واضح جدا فى اختيار أصوات القوافي- وإن كان هذا ليس من صميم بحثنا- إلا إنه سمة لا تُخطئُها العين ونحن فى طريق دراستنا للمشهد الشعرى وعناصره، والذى بدا فى هذه القصيدة مزدحما بالتفاصيل التى تساهم فى تشكيل ملامح اللقطات الصائغة للمشهد الذى انغرست دلالته الآن فى قلب الواقع خارجا من رحم القصة التاريخية، يقول دنقل:

لا تصالح..

فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندين..

(فى شرف القلب)

لا تنتقص

والذى اغتاَلنى مُحضُ لص

سرق الأرض من بين عينيَّ

والصمت يُطلق ضَحْكَتَهُ الساخرةَ!

وهكذا ينتهى الجزء الأول من القصيدة بأقوال كليب الذى يحتضر وهو يسجل وصاياه لأخيه الغائب قبل أن ندخل فى الجزء الثانى من القصيدة الذى جاء على لسان اليمامة ابنة كليب المقتول وقد جاءتها وفود القبيلة طالبة للصلح والسلام.

 ويستمر مضمون الرفض خلال هذا الجزء فى إطار المعمار المشهدى الذى اختاره الشاعر كوسيط جمالى للتعبير، فما زلنا فى أسر الحوار الذى يتجلَّى هنا بين اليمامة ووفد القبيلة كشخصيات حملَّها الشاعر رسالتَه ورؤيتَه التى تقوم على مبدأ التناقض والضدية الذى هو أساس الصراع الدرامي، فاليمامة تريد العدل والإنصاف الذى لا يتحقَّق إلا بعودة أبيها المقتول ووفد القبيلة يريد الصلح والسلام وكلا الصوتين يقوم على مبررات اجتهد الشاعر فى صياغتها، فاليمامة تريد:

أبى لا مزيد!

أريد أبي.. عند بوابة القصر..

فوق حصان الحقيقة

منتصبا.. من جديد

والوفد يريد الصلح والسلام حتى تستمر الحياة وتكون هناك فرصة للعيش والعمل والتجارة:

من يطالبنى أن أُقدِّم رأس أبى ثمنا.. لتَمُرَّ القوافل آمنة..

وتبيع بسوق دمشق حريرا من الهند

أسلحةً من بخارى

وتبتاع من بيت جالا العبيد؟

 

حتى وإن جاء مَنطِقُ الوفود ممزوجا بالسخرية والتهكم.

لقد تجاوزت رؤية الشاعر فى هذا الجزء من القصيدة حدود القصة التاريخية وحدود الواقع المعاش لتدخل بعمق فى قضية الموت والعدل فى بعدها الإنساني، فالقتيل كليب قُطعت رأسه وأُهين فى مَيْتتِه.

كليب يموت..

ككلب تصادفه فى الفلاة؟

إذن فلماذا كسا وجهَه الصورةَ الآدمية؟

ها كرَّم الله إنسانَه؟

مات مَن مات كلبا فإذن أين ذهب الآدمى الذى قد براه؟

خصومة قلبى مع الله

… … …

ها هو جسما- يعود له – دون رأس..

فهل تقبل بوابةُ الغيبِ ما شابه العيب؟

أم إن وجه العدالة:

أن يرجعَ الشِلوُ للأصل..

أن يرجعَ البَعد للقَبل..

أن ينهضَ الجسدُ المتمزِّقُ مكتملَ الظِلّ

حتى يعودَ إلى الله متحدا فى بهاه.

ها قد وصل الشاعر إلى ذروة المشهد الذى حلَّق بعيدا بعيدا عن تفاصيل الحادثة التاريخية (مقتل كليب) وتفاصيل الحادثة الواقعية (احتلال فلسطين)، وربما كان ذلك بسبب توحد الشاعر العميق مع رؤيته للعدل، فالمقتول (كليب) لن يعود كما كان إنسانيا واجتماعيا وذاتيا كما تريد ابنته، وفلسطين لن تعود كما كانت قبل قتل أهلها وتشريدهم فى المنافى والملاجئ، ورغم ذلك يتشبَّث الشاعر بالحق والعدل المطلقين، وكأنه يطلب المستحيل.

باحثة صينية. جامعة شمال

غربى الصين للمعلمين (لانجو)